فى ذكرى رحيل كوكب الشرق

في الثالث من شباط عام 1975 رحلت عن عالمنا هرم فني عظيم وهي كوكب الشرق ام كلثوم.. وبسبب ما فيه فننا اليوم من هبوط وميوعة ارتأيت ان اقدم لجيلنا الجديد هذا الموضوع في الذكرى ال31للسيدة ام كلثوم ......
لقد كان في كل عصر من العصور عبر التاريخ ، مغنياته المشهورات فهناك في عصر صدر الاسلام وبني امية كانت سيرين مولدة شاعر الرسول صلى الله عليه وسلام حسان بن ثابت وعزة الميلاء وجميلة وسلامة القس .
وفي عصر الدولة العباسية كانت بذل ودنانير وعلية بنت المهدي وذات الخال ومتيم الهاشمية وشارية وعريب.
وفي عصر الاندلس ولادة بنت المستكفي وهند جارية ابي محمد عبد الله ابن مسك الشاطبي .
لم تحظ مطربة واحدة من بين هؤلاء بما حظيت به ام كلثوم من القاب ومن احترام وتقدير وخلود ، ذلك لوفرة عطائها الفياض وتضحياتها التي لا حدود لها وتقديسها للفن الذي وهبت له نبض حياتها وسعيها الدائم والدائب للارتقاء بالموسيقى العربية التي تعيش في محرابها واخلاصها الجم لفنها الذي عشقته منذ نعومة اظافرها وانتمائها لدينها ووطنها .
لقد نقلت ام كلثوم بصوتها الاغنية العربية الى سماواتها الرفيعة في الفاظها ومعانيها واخيلتها واهدافها ومراميها وصار للغناء منهج ودستور بعد ان كان لحمته وسداه مجرد اشاعة الطرب والشجن وانتزاع تصفيق الجمهور .
تألقت ام كلثوم في سماوات مصر والوطن العربي على مدى خمسين عاما من الزمان كوكبا متفردا في فن الغناء ونبعا للنغم الاصيل يروي الظمأ ويشفي العليل ويهدي الحائر ويرد سعادة المحروم . انها قيثارة الله على ارض النيل الخالد وصاحبة الصوت المناضل من اجل العزة والحرية والسلام .
واهلها لذلك نشأتها الدينية وحفظها للقران الكريم وتجويده وانشاد المدائح النبوية والقصائد والتواشيح الصوفية وهي في سن مبكرة مع والدها الشيخ ابراهيم وشقيقها خالد، مما ساعدها واعانها على اجادة اللغة العربية نطقا وفهما . ويأتي بعد ذلك لقاؤها باستاذها ومعلمها الملحن والمغني الشيخ ابو العلا محمد الذي تولى فترة شبابها الفني بالتدريس والتثقيف المكثف والتدريب الدائم وتفتحت مواهبها على يدية . كما انها استفادت من لقاءها بشاعر الشباب احمد رامي عام 1924 .
لم يكن دور ام كلثوم وهدفها يقف عند حد اسعاد المستمعين بشدوها واشاعة البهجة والمسرة في قلوبهم بصوتها الطيع الثري وادائها المحكم المتقن وانما كان اعمق من ذلك بكثير كانت تثقفهم وتسمو باذواقهم وترتفع بحسهم وفكرهم وذلك بالكلمات العذاب والمعاني الجادة والاشعار الرصينة الرفيعة التي نظمها فحول الشعراء في مصر والعالم العربي وصاغها عمالقة الملحنين .
وكان صوت ام كلثوم يدوي في الاحداث الوطنية لمصر وللعرب وتعبر بحق وصدق عن حبها وانتمائها لوطنها ولامتها وتشيع الحماس في قلوب الشعب وذلك بما تغنيه من الحان ثائرة .وذلك بالضافة الى جهودها المشكورة في جولاتها الفنية بالدول العربية والخارج لجمع الاموال والذهب من اجل المجهود الحربي وذلك في اعقاب نكسة 1967
وقد لقيت ام كلثوم العديد من مظاهر التقدير والتكريم من ابرزها المهرجان المهيب الذي اقيم على شرفها عام 1949 .كما انها حصلت على جائزة الدولة التقديرية من مصر وكانت اول فنانة عربية تحصل على جواز سفر دبلوماسي هذا عدا عن الاوسمة العديدة من الدول العربية .
وفي 23 مارس 1968 اقامت سفارة باكستان بالقاهرة حفلا كبيرا لتقليدها وسام نجمة باكستان بمناسبة تكريم ام كلثوم للشاعر الباكستاني محمد اقبال بغناء قصيدته حديث الروح والقى في الاحتفال السيد سجاد حيدر سفير باكستان نيابة عن فخامة السيد محمد ايوب خان الكلمة التالية : "يشرفني ان انوب عن فخامة السيد رئيس باكستان في تقليد كوكب الشرق السيدة ام كلثوم وسام نجمة الامتياز الذي انعم به عليها ، لقد منحت السيدة ام كلثوم هذا الوسام الذي يعد من ارفع الاوسمة التي تمنح للمدنيين لاسهامها في تكريم شاعر باكستان وفيلسوفها الدكتور محمد اقبال بغنائها قصيدة له ، والواقع ان تكريم باكستان للفنانة العربية الكبيرة ام كلثوم يضيف الى ما تلقاه من تكريم وتقدير في الشرق وفي الغرب .
وذلك لما اولاها الله من موهبة كبيرة وصوت سماوي واخلاص كبير لفنها بما جعلها سيدة للغناء العربي على الاطلاق .
والواقع انه مهما قلت عن السيدة ام كلثوم فاني لن اتجاوز ما يشعر به كل عربي وكل مسلم من الشعور بالفخر والاعتزاز لاننا عشنا في عهدها وفب ايامها.
وحين غنت ام كلثوم لاقبال اسهمت في تعريف العالم العربي به فاقبال لم يكن شاعر باكستان وحدها بل كان شاعر الشرق وشاعر الاسلام الذي استمدكيانه من نور الكتاب الكريم ومعانية من تراث الاسلام الخالد وتعبيراته من مواقف البطولة التي زخر بها هذا الدين الحنيف . واقبال واحد من شخصيات هذا العصر ومن المصلحين الذي حباهم الله بعد النظر وسلامة الحكم وحكمة التقدير .
والسيدة ام كلثوم حين غنت لاقبال فانها تضيف اسما الى الاسماء الضخمة التي خلدتها باغنيها لهم .
وهذا التكريم الذي تلقاه ام كلثوم من باكستان انما هو رمز للاخوة الصادقة التي تربط بين باكستان والعالم العربي ودليل على الشعور العميق بالمحبة والتقدير الذي يتمثل في صدور شعب باكستان وحكومتاها لاخوانهم العرب "
وفي الثالث من شباط عام 1975 انتقلت ام كلثوم الى الرفيق الاعلى ورنا الحزن على ملايين من مريديها وعشاق فنها والذين امتعنتهم بصوتها الندي المعجز طوال خمسين عاما من الزمان ..........

لم تكتفي ام كلثوم بغنائها للقصائد العاطفية التي اعطتنا معنا ساميا للحب .
فهي لم تنسى الغناء الديني الذي بدأت به حتى وهي بالقمة وكما تقول هي فان العاطفة الدينية هي اقوى عاطفة لديها . فقد كانت متدينة وحين سئلت مرة لو لم تكن ام كلثوم ماذا احبت ان تكون اجابت بانها احبت ان تكون واحدة من المسلمات الاوائل لتكحل عينها برؤية النبي وبرؤية فجر الاسلام ...
وقد غنت تقريبا لجميع مناسباتنا الدينية . ذكرت الاسراء والمعراج في قصيدة احمد شوقي ( نهج البردة ) ، وغنت للمولد النبوي في قصيدة ايضا لشوقي وهي (ولد الهدى ) او (الهمزية النبوية ) وغنت للحج ومناسكة (الى عرفات الله ) و(القلب يعشق كل جميل ). هذا عدا عن باقي الاغاني الدينية ك(سلوا قلبي ) و (رباعيات الخيام ) و(حديث الروح ) و (الثلاثية المقدسة ) و(تائب تجري دموعي ندما) و (برضاك يا خالقي ) وابتهال ( يا رسول الله خذ بيدي ) بالاضافة الى اوبريت رابعة العدوية والذي غنت به عدة اغني دينية اخرى .......

كما انها واكبت الاحداث الوطنية منذ ان جائت الى القاهرة حتى وفاتها . فغنت عند وفاة سعد زغلول ترثيه عام 1927 (ان يغب عن مصر سعد ) وغنت للجامعة العربية عند افتتاحها عام 1945 ( زهر الربيع ) وغنت للحرب في فلسطين عام 48 ( نشيد الشباب ) . وحين بدأ المد الوطني يزداد في مصر وازدادت المقاومة ضد الانجليز غنت عدة اغاني حماسية وقصائد لشوقي تمس الموضوع وكان بيت الشعر الذي غنته " وما نيل المطالب في التمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا" يجلجل على كل لسان
وفي عام 1951 ومع تزايد الشعور الوطني عند الجميع في مصر غنت (مصر تتحدث عن نفسها ) للشاعر حافظ ابراهيم . وفي عام 1952 حيت الثورة باغنية (صوت الوطن ) او المعروفة ب(مصر التي في خاطري ) . ومن ثم غنت للجلاء وغنت تبث الحماس في حرب 56 اغنية (والله زمان يا سلاحي ) والتي تحولت لنشيد وطني لمصر حتى عام 1977 وغنت للمصريين الذين استطاعوا تشغيل القناة (محلاك يامصري ) وغنت للوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وللسد عام 1960 وللانفصال عام 1961 .
وظهر دورها البارز في جمع التبرعات بعد هزيمة 67 فهبت الى العالم تجمع التبرعات للمجهود الحربي فسافرت الى باريس وزارت معظم الدول العربية ومنذ 1967 لم تعد تقبض مقابلا لحفلاتها بل كانت تتبرع بكل اجرها للمجهود الحربي وكان لها دور كبير في جمع المال والذهب للجيش . كما انها غنت الكثير لتحميس الشعب ك(قوم بايمان وبروح وضمير ) او (حق بلادك ) ( قصيدة مصر ) (انا فدائيون ) وغيرها......
هذا ولم تقتصر بمواكبة الاحداث في بلدها مصر بل غنت للدول العربية فغنت للعراق (بغداد يا ذات القطوف الدانية ) (بغداد يا قلعة الاسود ) و (شعب العراق الحر ثار ) .
وغنت للكويت بعيد استقلالها ( يا دارنا يا دار ) وعند اعلان دستورها ( ارض الجدود )
وغنت قصيدة (السودان ) لاحمد شوقي
وغنت لفلسطين (راجعين بقوة السلاح ) و (طريق واحد )او المعروفة ب(اصبح عندي الان بندقية )وغنت للقدس في الثلاثية المقدسة هذا الى جانب مكة والمدينة المنورة .
كما وذكر كلا من سوريا واليمن في العديد من اغانيها .............

لقد كانت ام كلثوم امراة متواضعة عبقرية ومحتشمة ، محتشمة بغنائها محتشمة باخلاقها ومحتشمة بلباسها فمنذ وصولها الى القاهرة وحتى اخر حفلاتها لبست اللبس المحتشم الكم الطويل والثوب الغير ملتصق .. وهذا ما ينقص فننا اليوم الاحتشام بكل شيء فما نراه اليوم هو راقصون وراقصات لا يلبسون شيئا تقريبا يرددون كلمات بلا معنى والحان متشابه لا يواكبون الحداث الوطنية ولا يغنون الا الاغاني العاطفية ونحن اليوم نفتقد للغناء الديني والوطني والوصفي ففي الاحداث الدينية نذيع اغانينا القديمة وكذلك في الاحداث الوطنية لان "مغنينا " لا يواكبون ..............
فرحم الله ام كلثوم ...

معلم يا كبده (كوكب الشرق)